ستموت فى العشرين

ستموت فى العشرين

عن تجليات الليلة الاخيرة

فى حياة مزمل

كتابه عماد النويرى  

لا احد يستطيع أن يؤكد على وجه اليقينإ إذا كان مزمل أبن النورحسين  وسكينة النصرى  ، في قصة الأديب السوداني حمور زياده  “النوم عند قدمَيْ الجبل” قد مات في العشرين  , إستنادا إلى نبوءة المجذوب الصوفي الذى كان يصاحب موكب خليفه  الشيخ أبو عاقله ،  في طريقه للمدينة ،  ومعه أربعين من أتباعه ومجاذيبه ،  حيثأ ستقر به المقام في باحة الجامع الكبير ، وكان له أن يقرر أن مزمل سيموت عندما يبلغ العشرين من العمر ، بعدأن قام ب ( تحنيكه )اى ترطيب فمه بريقه  يوم مولده  .    فالقصة الأدبية تنتهى عندما قضى مزمل ليلة ساخنة مع إحدى بغايا حى  العبيد ، وأثبت فيها فحولته ,  وحقق فيها رجولته ,  وكسر فيها طوق الموت الذى يخنقه منذ عشرين عاما ، من أجل أن تنتصر في النهاية إراده الحياه . ولاأحد يعرف على وجه اليقين ماذا فعل مزمل عندما ذهب منتشيا حيث مقابر القرية ،  ليحفر قبره بنفسه  ، عند قدمي جبل الصحابة ، وربما جبل الهموم والسكون والجمود والتخلف ، الذى  تراكمت  رماله وصخوره  عبر مئات السنين . هل مات مزمل ليقدم بموته قربانا للموت ليضيف ضحيه جديده مستسلما لواقع موبوء ؟! أم أنه باختياره قبره ,  وطريقه موته ,  قد حقق أنتصار الحياه رغم الموت ؟! وهل حقق كاتب الأصل الأدبي ثم صاحب المعالجة المرئية امجد أبو العلا اختراقا مطلوبا لنقد  موروث القرية الصوفى الذى وصل به الامر إلى التنبؤ بأعمار الناس ، وتصديق الناس لتلك النبوءات .؟!  وفى لحظه التنوير التي وصل لها مزمل في النهاية , هل يمكن القول أن الكاتب والمخرج أستطاعا أن يقدما نقدا مطلوبا للفكر الصوفي ,  وللفكر الديني بشكل عام,  وهو ما أدى إلى تهديد داعش بحرق الصالات التي يعرض فيها الفيلم الذى حاز على تكريم خاص ، بإستحقاقه جائزه أسد المستقبل لمهرجان فينسيا ,  ثم نجمه الجونه , وتانيت قرطاج الذهبي ,  هذا غير العرض والتقدير وبعض الجوائز الأخرى في العديد من المهرجانات والملتقيات السينمائية العربية والعالمية  وحتى ترشيح السينما  السودانية له   للحصول على جائزه  الاوسكار كأفضل فيلم اجنبي . قبل الإجابة على الأسئلة والتعرف على الفيلم من المهم ان نقترب قليلا من الصوفية والفكر الصوفي في السودان .     

يروي الشيخ محمد النور ود ضيف الله في كتابه “الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان”، أن مريدي الشيخ القدال ود إبراهيم عبودي قالوا له: يا سيدي نريد منك أن ترينا الطيران في الهواء فطار بعنقريبه، أي (بسريره) في الهواء!!.

وذكر في الكتاب أيضا أن  الشيخ المسلمي الصغير ، كان لا يرضع في رمضان إلا ليلاً، وعندما مات كان يجيب على الناس من قبره. !! أما الشيخ إسماعيل صاحب الربابة فقد تكلم في المهد ، وكانت الربابة تضرب وحدها فتطرب لها الحيوانات والجمادات !!، وكان الشيخ إذا استبدّت به النشوة والجذب، يجمع الصبايا والعرائس للرقص في فناء داره، ويعزف لهن ربابته التي كانت لكل ضربة منها نغمة يفيق بها المجنون، وتذهل منها العقول  , وكانت إذا تركت في الشمس تحس بإقتراب صاحبها منها فترسل إليه أنغامها دون أن يضرب عليها أحد !!.

نظرة وتعاليم

هذه القصص وقصص أخرى كثيرة يتداولها السودانيون تعبّر عن نظرة المجتمع السوداني الخاصة إلى الدين، من خلال تعاليم الطرق الصوفيّة، ونظرته إلى شيوخ الصوفية من خلال معجزاتهم وخوارقهم، فكلما قدّم الشيخ المزيد منها كلما زاد عدد مريديه وأتباعه.

ويؤرخ  الكتاب  “الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان” لحوالي 270 شيخاً صوفياً عاشوا في فترة مملكة سنار (1505-1821)، وهي الفترة التي انتشر فيها الإسلام على نحو أوسع في السودان. ولا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد أتباع هذه الطرق ومُريديها، لكنّهم على الأرجّح يُمثّلون نحو 80% من إجمالي عدد السكان في البلاد البالغ 40 مليون نسمة.

ويذكرأن العام 2017 شهد تأسيس أول حزب صوفي سوداني صريح، برئاسة عبد الجبار الشيخ بلال، شيخ الطريقة السمانية الطيبيّة، بيد أن أكبر حزبيين سياسيين سودانيين يستندان إلى قاعدة شعبية صوفية هما “الأمة القومي” و”الاتحادي الديمقراطي”.وهذا فقط جزء بسيط من تغلغل الفكر الصوفى وتأثيراته في المجتمع السودانى .  وهذه اضاءه لابد منها .  .

حلم التنوير

في فيلمه الذى أعتمد على قصه حمور  ,  وكما جاءت المعالجة المرئية ,  أعتمد المخرج الذى يقدم تجربته الروائية الطويلة الأولى ,  بمساعده كاتب السيناريو الإماراتي يوسف إبراهيم ، على المحاور الرئيسبه في الأصل الأدبي ، بعد حذف يعض الأحداث ,وأحيانا  تعديلها ,  ثم  إضافه احداث جديده  . فشخصيه الحاج سليمان الذى يعود إلى القرية بعد العمل لفتره طويله كسائق في شركه الأسمدة في العاصمة ،  تتحول  إلى شخصيه مصور سينمائي  سكير حظى بالتواصل مع بعض مظاهر الحضارة ,  وأنتهى به الامر في بيت في أطراف القرية وهو يقضى يومه بين شرائط الأفلام  القديمة ,  وأحلامه الضائعة ,  واحيانا بن أحضان عاهره  القرية التي ضيعت عمرها بجانبه . وربما أراد امجد  ( المخرج ) ومعه يوسف ( كاتب السيناريو )  ان تكون شخصيه سلمان معادلا للشيطنة المطلوبة لغواية مزمل للخروج من تابوت  نبوءه موته المعلن  , وقد نجح سليمان بالفعل أن يضع قدم مزمل  على بداية طريق الغواية ، عندما جعله يشاهد هنومه وهى تتلوى بجسدها المثير  ,  وربما كانت ( شخصيه سليمان )  معادلا لحلم التنويرالسودانى والعربي  الذى انكسر بإعتبارأن كل هزيمه عسكريه يسبقها هزيمه المثقفين ، وربما  ( ثالثه  ) أراد امجد ويوسف أن يقدما معادلا لصوره المثقف العربي الذى أصبح يعيش منزويا على هامش الحياه غارقا في ماضيه  , غائبا عن حاضره  , ولايملك سوى ذكرياته الجميلة عن عصر مضى ، ولن يعود ، عندما نرى  شريط الصورة تتداخل معه بعض لقطات من فيلم ( باب الحديد ) ، ثم لقطات من فيلم ( الخرطوم التسجيلي ) لرائد السينما التسجيلية السودانية جادالله جباره . وشريط الصوت يقدم لنا مقاطع من أغنيه ( لا مش انا الى ابكى ) لمحمد عبد الوهاب و( دخلت مره جنينة ) لاسمهان .     

في الأصل الأدبي  تجنب الكاتب السوداني ،  حمور زيادة ، الصِّدام  المباشر مع الموروث الصوفي  وجموده وتأثيره على أهل القرية عبر شخصيةٍ مستنيرةٍ , وإنما لجأ إلى رسم شخصية “الحاج سليمان “كشخصيه  غير متنافرةٍ مع تديُّن القرية كما تعرف عليه مُزَّمِل في  مسجد القرية ، وهو غير مندمج مع دروشة أهلها  ,  وهو يرى أن الإنسان يجب عليه أن يخوض غمار تجربةٍ متحررةٍ من الإحساس بالذنب، وقد نجح الحاج سليمان في الأصل الأدبي  , في اجبار مزمل على البحث عن إجابه سؤال  مهم  : “كيف يعيش للطاعة من لم يَعْرِف المعصية؟! وكيف يأتي إنسانٌ إلى ربِّهِ وليس معه معصيةٌ أو كبيرةٌ؟! ومن  المهم القول أن تركيز الصدام مع الفكر الصوفي في الأصل الأدبي جاء بطريقه غير مباشره من خلال الليلة الأخيرة في حياه مزمل عندما أرتكب المعصية الأولى في حياته – مع سبق الإصرار والترصد –  في محاولة  لضرب النبوءة في الصميم  , بعدها لايعرف أحد على وجه اليقين ، هل مات مزمل في نفس الليلة عندما ذهب ليحفر قبره بنفسه عند قدمي الجبل , أم انطلق الى حياه أخرى بعد ان تملك كامل اراداته وتحرر من نبوءة الموت عند العشرين   

رومانسية ورموز

 في الفيلم ( السيناريو )  لم نجد صراعا وصداما مباشرا مع الفكر الصوفي المسيطر , بل على العكس كان من الواضح في شريط الصورة ذلك الإحتفاء الدافئ بقدوم موكب الشيخ خليفة وأتباعه ومجاذيبه , كما تجنب سليمان ( محمود السراج ) ،  مهاجمه الفكر الصوفى بطريقه مباشره  ، وأختفى النور ( طلال عفيفى ) والد مزمل بعد ولادته ولمده عشرين عاما ,  معلنا هروبه وترك أبنه فريسه لنبؤه جمدت  حياته لعقدين من الزمن  . وقد كان متواجدا في الأصل الأدبي منذ البداية وحتى النهاية مساندا لولده .  كذلك تم  إضافه قصة حب بين مزمل و نعيمة  ( بونا خالد )  وهى إحدى فتيات القرية ، لإضفاء جو من الرومانسية والمرح على قصه مغرقه في الرمز والمعاني العميقة ، عن الموت والحياه .ووجود هذه الإضافة أرى اأنها مهمه لكسر نمطيه الشخصيات ,  وإظهار شخصيه مزمل باللعب  الدرامي على ثنائيه الموت مقابل الحياه .وتم التأكيد على دور الأم القوية التي  تتحمل قدر فقدان أبنها وموته كل ثانيه بشجاعة منقطعة النظير, وهو تقدير مستحق للمرآه السودانية بشكل عام . وهنا لانريد أن نربط بين نموذج الأم كما يراه المخرج ، وكما تأثر به في حياته الشخصية ,  ودراما الرواية والفيلم . وتم إضافه مشهدين لزواج نعيمه وحلقه الزار التي حضرتها سكينه ربما كنوع من تأصيل العادات والتقاليد  السودانية ، وهو حق مشروع ، وربما لمخاطبه العين الأوروبية التي تهوى التعرف على كل ماهو غريب في الأنساق الاجتماعية للشعوب المختلفة .  كما تم تغيير النهاية الموجودة في الأصل الأدبي , في الفيلم يذهب مزمل إلى عاهره القرية بدلا من الذهاب إلى حى  العبيد .  ويعنى ذلك أن تركيز الصدام مع الفكر الصوفي جاء بطريقه غير مباشره من خلال الليلة الأخيرة في حياه مزمل ، عندما ارتكب المعصية الأولى في حياته – مع سبق الإصرار والترصد –  في محاوله  لضرب النبوءة في الصميم  , بعدها لايعرف احد على وجه اليقين هل مات مزمل في نفس الليلة عندما ذهب ليحفرقبره بنفسه عند قدمي الجبل , ام انطلق الى حياه أخرى يملك فيها اراداته بعد ان تحرر من نبوءة الموت عند العشرين .   

طريق وعر

في الفيلم ( الفن ) الى حد كبير نجح امجد أبو العلا في السيطرة على مفردات لغته السينمائية مع الاستعانة بمصور فرنسي قدم كادرات ولقطات ومشاهد معبره ، من خلال  الرسم بالضوء ، في أماكن مفتوحه شاسعه  ، وفى الأماكن الضيقة . وهنا نشير إلى بعض استلهامات الصورة من أفلام مخرجين شهيرين هما شادى عبد السلام ( الممرات الضيقة في بيت مزمل ) ،  والمخرج اليوناني الشهير ثيودوروس  انجيلوبولس ( اللقطات العامة لوصول موكب خليفه الشيخ في المراكب النيلية )  . ويأتي شريط الصوت معبرا إلى حد كبير عن الحالات النفسية للشخصيات  , وكان الممثلون -الذين يظهر بعضهم للمرة الأولى – على قدر المسؤولية لتجسيد شخصيات أحاديه الجانب عدا شخصيتي مزمل ( مصطفى راشد )  وسكينه النصرى ( اسلام مبارك )

في تجربته الروائية الأولى ، يحقق امجد أبو العلا قدرا لابأس به من النجاح ,  في التعامل مع نص ادبى صعب ,  ويحاول جاهدا أن يقول الكثير  ’ وهو يمشى على طريق وعر ,  وشائك من الأفكار والمورثات . وإذا كانت خصوصيه التعبير الصوري قد طغت  أحيانا على الرسائل المهمة التي كان يقصدها كاتب الأصل الأدبي في بناء روائي متماسك من البداية وحتى النهاية ، فإن المعالجة المرئية ( ستموت في العشرين ) تجربة مهمة في تاريخ السينما السودانية يشكل خاص ، والسينما العربية بشكل عام ، وتستحق التأمل والمشاهدة

.

https://www.youtube.com/channel/UCdUrI1UdMivevU800swS5EQ

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s