حنين لزمن البراءة
وعوالم حافلة بالرموز
كتابة عماد النويرى

ماذا يعنى أن يطارد الشريف ( بيل ) القاتل ( شيغور) الذى يطارد بدوره ( موس ) الذى وجد بطريق الصدفة مليونين من الدولارات ؟ . وماهى كل هذه الضجة حول فيلم محكوم بالصدفة منذ بدايته وحتى نهايته ؟ . وماهى رسالة هذه الدراما السوداء التي تحتفي بالقتل المجاني في كل لحظة ، وتقدم المجرمين كإبطال تحبهم وتتعاطف معهم ، وتتمنى الا يغادروا الشاشة أبدا ؟!. ثم ماهو وجه التميز لهذه القصة المفككة حيث ينفصل الزمان عن المكان , وتنفصل الشخصيات عن نفسها , ثم في النهاية تنتهي الأحداث دون أن توصل المقدمات إلى النتائج ؟!. ثم ماهى المعاني السامية التي جعلت أكثر من 5000عضو في الأكاديمية الأميركية لعلوم وفنون السينما ترشح هذا الفيلم لكل هذه الجوائز الاوسكارية ( 8 جوائز ) ، وهناك عشرات الأفلام التي كانت تستحق ( الاسكرة ) بجدارة غير هذا الفيلم .
هكذا كانت التساؤلات، وهكذا كانت الانطباعات مع القراءة الأولى للفيلم , وكان لابد من قراءة ثانية
هواجس كورماك
تقول القراءة الثانية أن ( لاوطن للمسنين) هو حنين جارف لزمن البراءة يكسر الأنماط , ويمزج الأجناس , ويصنع الدهشة ، ويقدم لغة مختلفة تحلق عاليا لتغرد خارج السرب . وتقول القراءة الثانية أيضاأنه من المهم قبل الخوض في تحليل الفيلم التعرف على عوالم وهواجس كورماك مكارثى كاتب الرواية التى أخذ عنها سيناريو ( لاوطن للمسنين ) ذلك بإعتبار أن مخرجي الفيلم الإخوان كوين صرحا أكثر من مرة انهما كانا في غاية الحرص على نقل الرواية إلى الفيلم كما هى .
الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي، البالغ 76 عاماً يعتبر واحدا من أهم الروائيين الأمريكيين المعاصرين. وكان واحدا من المرشحين لجائزة نوبل في الأدب. نُشرت روايته الأخيرة “الشارع” لتعتبر واحدة من أهم الروايات التي صدرت في العقود الأخيرة.. يصف مكارثي في ” الشارع” ” كما يرى مؤيد الرواى فى مقالته ( نهاية عالم فى رواية كلاسيكية معاصرة ) أمريكا كما لو أنها ( تعرضت إلى حرب نووية. كل شيء يغلفه السواد، الموت في كل مكان والحياة دُمّرت..إنها إذا ” نهاية العالم
في الرواية أب وابنه الذي يبلغ العاشرة من العمر يهربان في أمريكا المحترقة. الأرض مجرد نتوءات وأخاديد مغضنة دمرت برمتها من جراء كارثة لحقت بها. الرماد يعتم السماء والأرض خربة بينما يمضي العالم حثيثاً إلى البرودة ) . هكذا يرسم مكارثي في روايته، بإيقاع متداخل، بلون معتم خال من الرجاء، عالماً يتداعى نحو الانتهاء. تصبح المدن والقرى والقصبات خراباً، تتحول إلى أشبه بالصحراء.لا أشجار هناك ولم تعد ثمة حقول أو حيوانات. “. السماء تمطر رماداً وهي معتمة فيما يجرجر أب وابنه جسميهما وهما على وشك الموت من الجوع والتعب والخوف على أوتوستراد خال من البشر. يهربان دوماً. وعلى طريقة الجوالين الذين يعيشون على هامش المجتمع يحملان بعض المتاع داخل عربة للتسوق
( الشارع ) وقبلها ( لاوطن للمسنين ) يمكن اعتبارهما من روايات المغامرات التى تتعكزعلى أحداث الكوارث والأقدار كالفيضانات وانهيار عمارات عالية على البشر ، ومحاولة إنقاذهم ثم تجادل على نحو مجاني في أسبابها وترى نتائجها واضحة، بينما تستكمل عقدتها بالانفراج بإنقاذ البطل، وكذلك ليست هي روايات أخلاقية تتحدث أو تنوه عن تخريب البيئة و المسؤولية التي تقع على البشر جميعاً.

لحظات قاسية
فى ( لامكان للمسنين ) وكما فى أغلب رواياته لايرتكز كورماك مكارثى – وكما يرى مؤيد -،على نمط تقليدي، لإضاءة شخصيات عديدة، ولا يريد أن يضفي على المكان تفصيلات وتداخلات تتفاعل مع الشخوص ، وتحدد لهم بانوراما المكان والزمان.. فى رواية ( الشارع )إبتعاد إلى حد كبير عن المونولوج ، كما لو كان كل شيء قد بدأ للتو في المكان ذاته ، وجدت شخوص الرواية قدرها في هذا المكان لتصارع في لحظات قاسية، وفي وحشتها، تصارع لأجل أن تبقى على قيد الحياة. يتجسد ذلك في إطلاق النار من قبل الأب على آكل لحم البشر عندما يقترب منه، وهي الطلقة ما قبل الأخيرة في مسدسه. آو عندما يعثران في حفرة يلوذان بها من الخوف والبرد على جثث مرمية يتعثران بها وهي ملقاة هناك…
في أعماله السابقة كانت هناك شخصيات تتمثل بالدناءة وبالصراع المجرد عن الأخلاق ، ولكنها على أية حال شخصيات محتشدة بالعواطف، دينامية في صراعها، تعرف ذاتها وتحاول بكل ما لها من مقدرة أن تجتاز العقبات وتعيش. وفي روايته الأخيرة” الشارع” بلغت تلك الشخصيات مداها الأقصى في الصراع من أجل البقاء، حتى وأن كانت لا تنتظر الرحمة والخلاص بمقتضى تعاليم الدين.
ولكن هذه المرة يتلاعب في جوهر النزعة ويجسد الإنسان دون أفاق، تنغلق أمامه كافة المنافذ للخلاص
الرواية الجديدة التي حازت على جائزة بوليتزر تجسد في الواقع كابوساً معتماً. ولكن مع انعدام الأمل ينبغي الحفاظ على إنسانيتنا، هكذا ربما أراد مكارثي في روايته، مع أن أحد أبطاله يقول ليس هناك من مخلص لنا , وكما يبدو فانه لامخلص لنا ايضا فى روايته ( ليس هذا وطنا للعجائز ) .
رحلة مجازية
عنوان الرواية، وتبعاً لها الفيلم، مأخوذ من القصيدة الشهيرة للشاعر الإيرلندي ويليم ييتس «الإبحار إلى بيزنطة» والتي يقول مطلعها «تلك ليست وطناً للمسنين» والتي تتناول الطبيعة البشرية من خلال وصف رحلة الانسان المجازية إلى الحياة الأبدية. وهكذا ومن خلال القراءة الثانية والتى لابد منها للاقتراب من الفيلم اكثر , فإننا بصدد حكاية لاتقتصر على تقديم الجريمة المشوقة المفعمة بالمطاردات المثيرة التى تحبث الأنفاس , وإنما من المفترض ان يأخذنا الفيلم الى ابعد من ذلك. فهو يحمل الكثير من المعاني الفلسفية والمفاهيم الخاصة العميقة ويبدو في هذه الحالة أن الرواية بما تحمله من مفاهيم , متسقة ومتناغمة مع الأخوين كوين من حيث أن كلا الطرفين مغرم بالقدر والمصادفة، حيث تحدد مصادفة ما قدر الإنسان وتجره إلى نهاية بعيدة كل البعد عما تخيله.
يبدأ الفيلم بلقطات تصور صحراء مهجورة ومقفرة في غرب تكساس، ثم نسمع صوت عمدة البلدة إد توم بيل (تومي لي جونز) وهو يخبرنا كيف أن المنطقة تغيرت وكيف أصبح العنف طاغياً. ثم نرى انطون شيغور الشخصية الرمز والتى لاتنتمى الى المكان وهو يقتل رجل الشرطة الذى قبض عليه منذ دقائق قليلة . تنتقل الكاميرا إلى مكان آخر لنتعرف على الشخصية المحورية الثالثة إلى جانب العمدة وشيغور، وهو لحام سابق يدعى لولين موس (جوش برولين) يصوب بندقيته نحو قطيع من الوعول وبعد إطلاقه الرصاص وتفرق الوعول يذهب لتتبع طريدته، وإذا به يفاجأ بعدد من الجثث . فيما يبدو انه منذ ساعات دارت معركة بين مجموعتين على صفقة مخدرات انتهت بموت أفرادها ولم يبق إلا شخص واحد ينازع الموت .. يتفقد موس المكان و يعثر على حقيبة بها مليونا دولار ويأخذها. وهنا تبدأ المطاردات. موس يهرب بالنقود واهماً أنه سيستطيع الفرار بها وتحقيق أحلامه ويحاول أن يخبئ زوجته (كيلي ماكدونالد) بعيداً عن أعين العصابة التي يعرف أنها ستحاول العثور عليه لأخذ النقود. ولكن ما لا يعرفه هو أنه أمام أناس لا يرحمون، وأنه أصبح وبسرعة شديدة معروفاً من قبل كل المعنيين بصفقة المخدرات. فهناك أولاً المجموعة المكسيكية التي تلاحقه للحصول على المال , وهناك شيغور ذلك القاتل الهارب الذي يتجول بسلاحه الغريب ليقتل به معظم من تقع عيناه عليه بينما يقرر مصير البعض بعملة معدنية يقذفها عالياً ويجعلهم يختارون أي وجه ستقع عليه فإذا صح اختيارهم تركههم يذهبون من دون قتلهم. وهناك أيضاً العمدة تومي لي جونز الذي يطارد الاثنين ويود أن يعثر على موس سليماً قبل أن يقتل على يد العصابات. وفي وسط هذه المطاردات هناك أيضاً شخص آخر لا نعرف اسمه (ستيفن روت) نراه في مكتب فاخر يطلب من شخص آخر يدعى كارسون ويليس (ودي هارلسون)، استرداد مبلغ المليوني دولار والقضاء على شيغور. ويبدو ويليس على معرفة تامة بشيغور وماضيه , في هذه الأثناء نرى الشخصية الأساسية في الفيلم وهي شخصية العمدة. يعيش حالة من اليأس وهو يشاهد هذه الجرائم تحدث حوله وهو لا حول له ولا قوة. إنه يعيش في أزمة روحية لا يجد لها حلاً. ويبقى شعوره بالحنين لزمن ولى إلى غير رجعة طاغياً على أجواء الفيلم كله. فى نهاية الفيلم الصادمة والمغايرة لنهاية مثل هذا النوع من الافلام ينجح شيغور فى تصفية موس , وكما يبدو ينجح ايضا فى ملاحقة زوجة موس وقتلها وينجح مرة ثالثة فى الهرب بعد حادثة سيارة كان من المفترض ان يروح ضحية لها .

تاملات وحنين
الفيلم ( السيناريو ) وكما أشرنا التزم إلى حد كبير بروح رواية كورمان مكارثى ، والتصق كثيرا بالشخصيات ، وماترمز له , وحاول على قدر الامكان أن يقدم العالم المحبب لكورمان ذلك العالم المشبع بالجثث التى تزكم رائحتها العيون التى تشاهد . فى الفيلم يمارس شيغور القتل وكأنه احد الهة الموت القدامى ، جاء ليحصد أرواح البشر بخفة وبمهنية عالية وهو يتعقب ضحيته بلا تعب . وموس يهرب من مكان إلى اخر وهو يضحى بكل شىء من أجل المال , اما الشريف بيل فانه غارق حتى اذنيه فى تأملاته وحنينه إلى الزمن الجميل . فى النهاية تأتينا الرواية ويأتينا الفيلم كمرثية لزمن أنتهى كان كل شىء فيه مغلفا بالهيبة والجلال والاخلاق حتى الجريمة . ومن ناحية أخرى يحاول الفيلم بصعوبة تقديم معالجة مرئية لسيناريو فكرى فلسفى محمل بالكثير ممن الرموز بطريقة واقعية وأن شابها الغموض فى كثير من الاحيان .
فى الفيلم ( الفن ) ، وإلى حد كبير ، ينجح الأخوان كوينفى أختيار مجموعة الممثلين وإدارتهم وأستخلاص أفضل ماعندهم ، وعلى راس هؤولاء ياتى خافيير بارديم الذى جسد شخصية شيغور بمهارة فائقة ، وأستطاع من خلال ادائه أن يخلق معادلا موضوعيا لشخصية واقعية فى الظاهر لكنها فى باطنها وجوهرها تجسد العديد من الأفكار والرموز. وكان له أن يحصد أوسكار أفضل ممثل عن أدائه في هذا الفيلم . ونجح أيضا تومى لى جونز فى تجسيد شخصية الشريف بيل وإضافة إلى ذلك هناك جماليات التشكيل فى أغلب اللقطات والتى ساعدت على امداد التعبير الصورى بالكثير من المعانى والدلالات ، وهنا نذكر المصور روجر ديكنز، وهو المصور الذي صاحب الاخوان كوين وقدم معهما الكثير من الاعمال . وقد عززت جماليات التكوين فى الكثير من المشاهد الإحساس بعوالم كورماك الكابية الموحشة .
فى ( لاوطن للمسنين ) لاتوجد حكاية صالحة للتسلية , وإنما مطاردة مشوقة بين الخير والشر ، ينتصر في نهايتها شيغور الذى يمثل القدر الذى يعبث بكل شىْ . و إذا كان من الصعب فهم الحكاية منأ أولها إلى اخرها فإن المعانى تقبع أحيانا في بطون الشعراء وفي أحيان أخرى تقبع في بطون الافلام الاوسكاريه
يمكن القول أن فوز فيلم ( لامكان للمسنين ) أو ( ليس هذا وطنا للعجائز ) باربع جوائز أوسكارية كان هو الحدث الاهم فى الاوساك السينمائية خلال العام 2008ولم يخيب الفيلم تلك التوقعات التى رشحته ليمضى فى طريق الأسكرة منذ حصوله على بعض جوائز البافتا والجولدن جلوب ، وإن لم يعجب ذلك البعض منذ البداة وحتى النهاية .