
لابد من الاعتراف بأن أغلبية النقاد الذين يتعاملون مع السينما وأفلامها ( منذ فترة طويلة) قد أصبحوا الان في مأزق كبير. لأنهم تعلموا قواعد النقد وطبقوها، عندما كانت الأفلام لم تصبح بعد مثل ‘أوديسا الفضاء’ و’تقرير الأقلية’ و’اكس من’ , وافاتار ، وفى القائمة أفلام لاتعد ولاتحصى . وكما يبدو فإن نقاد السينما أصبحوا الان في حاجة ماسة إلى مواكبة ومواجهة غول التطور التقني الذي تشهده السينما على مستوى الصوت والصورة وأيضا على مستوى الأفكار وحتى أساليب الإنتاج والعرض
موضوعات واضحة
في ما مضى من أيام، وفي سالف العصر والأوان , كان الناقد يتعامل مع موضوعات واضحة على الطريقة الأرسطيه فبداية القصة تؤدي الى منتصفها , ومنتصف القصة يؤدي الى نهايتها , والنهايات اما أن تكون سعيدة ويتزوج صالح او حمود بعائشة أو حصة ، واما تكون النهايات حزينة وتموت روبي في آخر الفيلم منتحرة ، بعد ان تكتشف خيانة حبيبها وائل مع صديقتها هيفاء (كل الأسماء المذكورة ليست لها صلة بأسماء واقعية). حتى بالنسبة إلى الأحداث التي كانت تقع في الماضي , أو ستقع في المستقبل , إلى حد كبير كانت مقبولة ولها جذور مهما توغلت هذه الأحداث في الخيال , ومهما وصلت إلى أقصى ما يمكن تخيله من ‘فانتازيات’ درامية.
شخصيات بسيطة
وكان الناقد يتعامل مع شخصيات بسيطة وسهلة، يمكن حصرها في قوالب معروفة، فهناك البطل والبطلة والسنيد أو السنيدة، وفي حالة قصص الغرام هناك العزول الشرير، وفي حالة قصص المغامرات هناك العصابة وصاحب الشركة الذي يعاكس السكرتيرة ويتاجر في المخدرات، وفي حالة الأفلام البوليسية هناك المعلم أبو شفة الذي يحب البنت توحة ويضطر إلى قتل حبيبها الشاب ممدوح بعد أن يكسر اتباعه كراسي مقهى الحي فوق رؤوس شباب الحارة الطيبين الذين يسارعون إلى نجدة ممدوح بعد ان يتعرض له أبوشفة. وسواء كانت البطلة هي السفيرة عزيزة أو السفيرة رشا فإن المعلم أبوشفة لن ينال شرف تملكها لأن قلب السفيرة ليس ملكها، وفي نهاية القصة حتما سيأتي الشرطي بعد أن يكون الجميع قد قتل الجميع، وبالطبع ستكون هناك نهاية مفجعة لو حدث أن كانت السفيرة عزيزة من بين الضحايا.
كانت الشخصيات التي يجري تجسيدها على الشاشة الفضية لها تقاليدها وطقوسها فعماد حمدي عندما يجسد شخصيةالطبيب فأنت تشعر انك أمام طبيب حقيقي , وشكري سرحان عندما يلعب دور الريفي الساذج الفحل أمام تحية كاريوكا في ‘شباب امرأة’ فأنت أمام ممثل عبقري يجسد كل تفاصيل الشخصية الداخلية والخارجية , وعندما يجسد رشدى اباظة دور الزوج اللعوب في ‘الزوجة 13’ فأنت أمام شخصية حقيقية تتعاطف معها وتحبها وتصدقها على رغم كل أخطائها
ومهما كانت الاعتراضات التي قدمتها السينما العربية على مر تاريخها فإنه كان ومازال من السهل التعامل مع شخصياتها وموضوعاتها من منطلقات ومداخل لها صلة بالمواريث الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، للمجتمع العربي ككل , ففي نهاية الامر فإن الدراما بكل أشكالها هي محاكاة للواقع من خلال رؤية فنان.
عبقرية الممثل
و بالنسبة إلى السينما العالمية كانت الشخصيات السينمائية في الأفلام لها رونقها وجمالها . ومنذ الأفلام الصامتة لشارلي شابلن مرورا بكلاسيكيات الثلاثينات ، والأربعينات ، والخمسينات ، وحتى التسعينات، لنا أن نتذكر الشخصيات التى جسدتها جودي جارلنج ، وففيان لي ، ولانا تيرنر ، ومارلين مونرو ، وغيرهن . ولنا ان نتذكر الشخصيات التي جسدها كلارك غيبيل وهمفري بوغارت وغريغوري بيك وغيرهم. مع الوضع في الاعتبار تنوع السينما الأميركية وإنفتاحها على الكثير من الأنواع السينمائية فإن هذه الشخصيات لطالما كانت واضحة، وكان من السهل الوصول إلى ملامحها بسرعة، ولنا أن نتذكر مثلا كلارك غيبيل في ‘ذهب مع الريح’ أو سيدني بواتيه في ‘خمن من القادم للعشاء’ أو روبرت دي نيرو في ‘سائق التاكسي’ أو حتى توم هانكس في ‘فورست غامب’. في كل الأفلام السابقة وبالنسبة إلى كل الشخصيات التي ذكرت كنت تتعامل مع شخصيات من لحم ودم , وكانت عبقرية الممثل وإبداعه يكمنان في قدرته على التعايش مع الشخصية بكل أبعادها لتقمصها وتلبسها , ومن ثم عرضها أمامنا حتى نصدق وحتى نقتنع.

وفيما مضى من ايام كان الناقد يتعامل مع بقية عناصر الفيلم بإعتبار أن هناك عناصر مهمة للفيلم يكتمل بها وجوده وكينونته كعمل فني له قيمته الفكرية والتعبيرية (مهما توغل في التسلية ومهما غرق في التجريد) , ومن هذه العناصر الديكور , الإكسسوارات ,الإضاءة ,التصوير والموسيقى التصويرية، والامر لم يعد كذلك الإ في ماندر .
أستوديهات أفتراضية
الان (بل منذ سنوات ) الأستوديوهات الافتراضية تقوم بتوفير كل هذه الأشياء. هذه الأستوديوهات المصممة من خلال برامج كمبيوتر قادرة على امداد أي فيلم بأي خلفية مطلوبة في الحال سواء كانت صحراء قاحلة , او ديكور مشهد متخيل على المريخ. وترك كل من مهندس الديكور والمصور والمؤلف الموسيقي، ترك هؤلاء أعمالهم للكمبيوتر ايضا ليقوم بالدور الأكبر في الفيلم. برامج الكمبيوتر قادرة الآن على تصحيح الألوان , وضبط الاضاءة , وتأليف الموسيقى التصويرية , واقامة مدينة رومانية كاملة , وصناعة مشاهد تتضمن مئات بل عشرات الآلاف من الشخصيات والمخلوقات الغريبة. ولنا ان نتذكر هنا المشاهد التي صنعت في افلام مثل ‘تايتانيك’ و’الحديقة الجوراسية’ و’المصارع’ و’ملائكة تشارلي’ و’لارا كروفت’ و’الفانتازيا الاخيرة’ او سلسلة افلام ‘داي هارد’ واغلب افلام جيمس بوند ناهيك عن افاتار وغيرها . و هنا نعيد التذكير بالقول ان ‘حرب الكواكب’ الجزء الخامس الذي يتضمن 2200 لقطة صنعت 1900 لقطة من لقطاته عن طريق الكمبيوتر. وحتى اداء الممثل قد تغير فلم يعد المقياس هو القدرة على تجسيد الشخصية بمختلف عوالمها وملامحها الداخلية والخارجية , وانما أصبح المقياس هو مدى لياقة الممثل ، وقدرته على الإداء الرياضي أمام الشاشات الخضراء والزرقاء ، ومدى قدرته على اداء الحركات الخطرة التي يمكن استثمارها في مابعد عن طريق الكمبيوتر، ولنا أن نتذكر هنا ‘هال بيري’ في ‘المرأة القطة’ وانجلينا جولي في ‘لارا كروفت . ويعنى كل ذلك أن الأفلام تتجه بل ستصبح قريبا عباره عن العاب كمبيوتر يتم التفاعل معها في واقع أفتراضي ,وهذا يحدث بالفعل

ويعنى ذلك أيضا أن شريحه كبيره جدا من المتفرجين الشباب الدارسين لعلوم الكمبيوتر ، يلعبون الأفلام الان على هواتفهم الخلوية ، وقادرون على إنتقادها , وتحليلها , والحديث عنها أفضل مائه مره من الكثير من النقاد القدامى الذين يصرون على الأقتراب من الأفلام بمقاييس النقد القديم
ويعنى ذلك كله أن شكل السينما القديمة في طريقه إلى زوال , وبالتالي المطلوب هو إعاده تأهيل نقاد السينما لدينا ليواكبوا التغيرات المؤلمة التي تفرضها سنه التطور
عماد النويرى
