الطيار ..سيرة حياة

لقطة من الفيلم

في سن مبكرة استطاع رائد الطيران الاميركى هوارد هيوز إخراج العديد من الأفلام ، وتصميم العديد من نماذج الطائرات، وإقامة العديد من العلاقات مع نجمات السينما، وبالفعل وكما قال الممثل ليوناردو دي كابريو الذي جسد شخصيته في فيلم «الطيار» -الذى إنطلق إلى شاشات العرض العام 2004 – كان هيوز مولعا بثلاثة أشياء الطائرات ،  والسينما ، والنساء ، لكن هل تكفي هذه الأسباب لتحويل سيرة حياة أي شخص لفيلم ترصد له مئات الملايين؟ الإجابة نعم إذا توافر هناك سببان (توفرا بالفعل مع سيرة هيوز) أولاهما هو وجود مخرج مثل مارتن سكورسيزي يهوى تصوير حيوات مضطربة ، ومتقلبة ، ومثيرة ، كانت تحيا في أزمنة بعيدة. وثاني هذه الأسباب هو أرتباط هذه الشخصية أو تلك بتاريخ الأمة ويقول سكورسيزي بهذا الخصوص: «هيوز يمثل الحلم الأميركي ، لكنه حلم ذو حدين ، فهو غني وقوي وصاحب نفوذ لكنه ينتهي بتدمير نفسه  

رحلة مثيرة

«الطيار» هو اقتباس إذن عن السيرة الذاتية لهوارد هيوز ولكنها سيرة ذاتية غير كاملة لأن الفيلم يصور الفترة ما بين 1927و1947 وفي هذه الفترة أستطاع هيوز تصميم نماذج طائرات عسكرية مبتكرة، كما ذهب في رحلة مثيرة حول العالم داخل إحدى طائراته التي كان يقودها بنفسه خلال أربعة أيام فقط، إلا أن الإمبراطورية التي بناها على مدى سنوات طويلة انهارت بسبب الجراثيم! فالرجل القوي صاحب إمبراطورية الطيران والسينما الذي اشتهر بعلاقاته مع أشهر الفنانات في ذلك الوقت مثل كاثرين هيبورن وجنجر روجرز وبيتي ديفز كان مصابا بالوسواس القهري وكان شديد الحرص على النظافة إلى حد الجنون ،  حتى أنه في سنوات حياته الأخيرة ذهب ليعيش منعزلا عن الناس. البعض يقول إن هذه العادة ورثها هيوز عن والدته فاحشة الثراء        

قبل ثماني سنوات من بدء تصوير الفيلم  بدا دي كابريو قراءاته عن هيوز وظل متعطشا لتجسيد شخصيته حتى يشاهد الناس هيوز الذي لا يعرفه أحد. ويصفه ليوناردو بأنه كان أول ملياردير أميركي يمتلك جميع مفاتيح السعادة في يديه ،  إلا أنه لم يكن أبدا يشعر بالسلام والهدوء الداخلي ،  وبالتالي لم يذق طعم السعادة

لم يذق طعم السعادة! ربما ستكون هذه الكلمات هي المدخل الحقيقي لحكاية سكورسيزي مع هيوز وحكاية هيوز مع سكورسيزي  

عوالم سفلية

في أفلامه التي قدمها حتى الآن سنشاهد دائما تلك الصور التي يتحرك فيها أبطال عصابات مازومين  ، وأعضاء خائفين أتوا من العوالم السفلية للمافيا ،  وشخصيات نسائية مقهورة ومظلومة وغارقة في ذواتها حتى الثمالة. في أفلامه ينتشر القبح على جوانب الطرقات الخلفية والمهجورة ليكشف عمق الشخصيات المحاصرة التي تشكل همومها وأحزانها حكايات الصورة ونبضها. الحكايات العادية لا يهواها سكورسيزي والشخصيات التي تدب على سطح الأرض بشكل طبيعي ليست هي الهدف ،  وربما ما زال يكمن في الذاكرة هؤلاء الصقليون المنحدرون من أصل إيطالي ، المفتونون بالعنف والمال والسيطرة ممن هاجروا إلى أميركا في العقد الثاني من القرن الماضي ، مدفوعين بالأحلام الكبيرة الآيلة دائما إلى السقوط ،  ليتركوا في نهاية مشوارهم بصمة على شوارع المدينة الملوثة بدماء الغرباء. المدينة التي يصفها أحد أبطال سكورسيزي بالمدينة الزجاجية. تعالوا نتذكر بعض أفلامه مثل «سائق التاكسي» و «الثور الهائج» و «نيويورك نيويورك» و «ملك الكوميديا» و «عصابات نيويورك  

«لقد فقدت الأتصال مع العالم الجديد وأشعر أنني مغترب عنه» هكذا قال سكورسيزي لصديقه المخرج سبايك لي في حوارهما المنشور على صفحات مجلة «برميير» السينمائية العام 1999. وربما في هذه الإجابة المختصرة نعرف إلى أي حد يشعر سكورسيزي بالغربة، وإلى أي حد ذهبت أفلام هذا المخرج بعيدا لتحكي عن شخصيات رصينة ومميزة عاشت في عوالم لم تعد موجودة الآن. يضيف سكورسيزي في حواره: (كل فيلم اصنعه هو عن عالم لا وجود له الآن)

ماذا نتوقع أن يفعل سكورسيزي بعد كل هذا بهوارد هيوز؟

عواطف وتشكيل

في السينما العالمية يمكن إعتبار سكورسيزي واحدا من أهم صناع الأجواء، فهو قادر دائما ومن خلال سيطرته على كل عناصر الفيلم، وكل التفصيلات الصغيرة ، بأن يجعلك في حالة تماس مع المكان والزمان، ومع «الطيار» لا بد حتما أن تعيش في أجواء العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، وحتما سيلعب اللون والنور أدوارا بارزة في نقلك إلى ذاك الزمان، وحتما سيهتم سكورسيزي كثيرا بموديلات الأزياء ، وأنواع السيارات والساعات ، وطرز الأثاث ، وأنواع الأواني المستخدمة في ذاك العصر. ومن المؤكد أنك ستعيش مع «الطيار» العوالم السينمائية لسكورسيزي تلك العوالم الغنية بالتشكيل ، والغنية أيضا بالعواطف والأخلاق والفوضى.

هيوز في النهاية وفي حساب سكورسيزي، هو شخصية إنسانية على رغم كل طموحاتها وقوتها، فإنها تستحق الرثاء  

في الفيلم «الفن» وغير الإضاءة والملابس والتشكيل بشكل عام، فإن سكورسيزي ينجح كثيرا في إدارة الممثل، وينجح أكثر عندما يتعلق الأمر بليوناردو دي كابريو الذي يقدم في هذا الفيلم واحدا من أجمل أدواره وبلا مبالغة يمكن القول إن سكورسيزي في هذا الفيلم نجح إلى حد كبير في إعادة تشكيل دي كابريو الذي عمل معه من قبل في «عصابات نيويورك» ليصبح نجما ناضجا جاهزا للانطلاق إلى أبواب العالمية كممثل كبير ومحترف. ولا ننسى اجتهاد بقية الممثلين والممثلات مثل جردلي وكيت بلانشيت وإليك بالدوين وحتى كيت بكنسيل    

في «الطيار» هناك رحلة حياة وفي كل الرحلات لا بد من وجود هدف ما ،  ومع هيوارد هيوز سنتوقف حتما عند الكثير من المحطات، ومع ساعة الوصول لا تسأل كثيرا ماذا يريد أن يقول الفيلم. ؟ وهل هو فيلم عن الحرب؟ هل هو فيلم عن السياسة؟ أم هو مجرد سيرة ذاتية؟ أم ملحمة تاريخية عن شخصية بطولية؟ أم مجرد حكاية مسلية؟ سكورسيزي نفسه لا يعرف فهو يقول: (أريد أن يستمتع الناس بالفيلم ويفكرون فيه، لا شيء أكثر من هذا) ا  

من المؤكد أن الناس يستمتعون بهذا الفيلم مهما كانت أسباب الأستمتاع لأنه فيلم يستحق المشاهدة  

عماد النويرى

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s