وثيقة بصرية مهمة تجمع الروائي والتسجيلي.
تنوع في العلاقات وكسر نمطية مشاهد الحروب.

القصة الحقيقية- أو ما يقترب منها- تقول إن الأختين السوريتين يسرا وسارة ماردينى ومعهما ابن عمهما نزار استطاعوا بنجاح أن يغادروا اسرتهم ووطنهم في رحلة هجرة قسرية بسبب الحرب في طريقهم إلى مصير مجهول، في اتجاه المانيا مرورا بلبنان ثم تركيا ثم اليونان عبورا لأكثر من حدود دولة أوروبية. وينجح أفراد القافلة المهاجرة في تخطي مهالك وأهوال كثيرة في طريق الهجرة حتى تكلل الرحلة بنجاح كبيرا عندما تحقق سارة حلمها بأن تشارك في أولمبياد ريودى جانيرو العام 2016.
وهذا ما قالته الصحف ومواقع التواصل في حينه، وهو ما جذب المخرجة سالى الحسينى ، ذات الاصول المصرية التي تعيش في بريطانيا لتحويل القصة التي ألهمت الكثير من الشباب في العالم إلى معالجة مرئية في فيلم عرض منذ أيام في الدورة ال 44 لمهرجان القاهرة وقبلها افتتح مهرجان تورنتو السينمائي الدولي. استغرقت كتابة الفيلم والإعداد له فترة طويلة (تقول المخرجة إنها 10 سنوات وهو غير منطقي)، ويشارك في بطولة الفيلم الشقيقتان اللبنانيتان نتالي ومنال عيسى، والفنان الألماني ماتياس شوايغوفار، والفنان المصري أحمد مالك، والفنانة السورية كند علوش، والفلسطيني على سليمان. وشارك في كتابة السيناريو الحائز على عدة جوائز جاك ثورن، ومن إنتاج نتفلكس.
هجرة وتقرير
منذ بدء الخليقة والبشر والحيوانات والحجر يهاجرون من مكان إلى مكان آخر في هجرات جماعية أو فردية، بحثا عن الشراب والطعام، وأحيانا بحثا عن الدفْء والأمان. وأحيانا ثالثة هروب من المجاعات والحروب. وتنوعت الهجرات ما بين هجرات اختيارية وهجرات إجبارية. وفي كل بلدان العالم هناك فئة من أصول مهاجرة. ويشير تقرير للأمم المتحد إلى أن النمو في عدد المهاجرين الدوليين كان قويا على امتداد العقدين الماضيين، حيث بلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون خارج بلدانهم الأصلية 281 مليون شخص في عام 2020 بعد أن كان 173 مليونا في عام 2000 و221 مليونا في عام 2010. وبين عامي 2000-2020، تضاعف عدد الذين فرّوا من النزاعات أو الأزمات أو الاضطهاد أو العنف أو انتهاكات حقوق الإنسان من 17 إلى 34 مليونا. ويمثل المهاجرون الدوليون حاليا حوالي 3.6 % من سكان العالم. منهم مليون مهاجر من سوريا وحدها!!.

استلهامات
في العام 1917 أفتتح تشارلي تشابلن استلهامات السينما العالمية لقصص الهجرة في فيلم (المهاجر) حيث ينزل المهاجرون في نهاية الرحلة البحرية من سفينة الهجرة التي أقلتهم إلى الولايات المتحد الأميركية ليواجهوا مدينة كبيرة، غريبة، وتحضر وجهة نظر شابلن الفكرية، وموقفه الإنساني الرافض لوحشية التمدّن وشراسته، فبعد لقطة تمثال الحرية، يظهر المهاجرون الفقراء منبوذين، ومدفوعين إلى الخلف بواسطة حبال سميكة… وتختزن هذه الصورة الرمزية المتوترة أبعادا دلالية وحضارية على قدر كبير من الأهمية. وإذا كان شابلن قد عالج موضوع فيلمه بطريقة كوميدية ساخرة كعادته فإن الفيلم كان فاتحه أفلام كثيرة عالجت هذا الموضوع منها أفلام عن الهجرة إلى أوروبا وأفلام عن الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميريكية، ومنها أفلام عن الهجرات غير شرعية بشكل عام. وتنوعت كل هذه الأفلام ما بين الروائي والتسجيلي… وتعنى هذه المعلومات أننا بصدد موضوع مهم قادر على أن يثير الانتباه، لأنه في حالة تماس وتقاطع مع مئات بل الإف القصص التي عاشها مهاجرون تحملوا – دون ذنوب تذكر – الكثير من المعاناة والألم لكي يصلوا إلى بر الأمان بعيدا عن مناطق الحروب والدمار والخراب.

مداخل
المداخل إلى فيلم (السباحون) ليست كثيرة رغم قراءاته المتعددة. فهناك مدخل تاريخي وثائقي له صلة بوقائع الحدث وتفاصيله، وهناك مدخل روائي وهو المعالجة الدرامية التي تميت صياغة الحدث من خلالها، وهناك مدخل فني عن كيفية صياغة الحدث ومعالجته مرئيا من خلال مفردات اللغة السينمائية وعناصرها. هذا باعتبار أن كاتبة السيناريو والمخرجة لم ترغب في الخوض في الخلفيات السياسية والأسباب التي أدت إلى الحرب ومن ثم حدوث الهجرة. وهو في الواقع موضوع شائك وبغيض.

تنوع
في الفيلم ( السيناريو ) تنوعت العلاقات بين الشخصيات ، وهذا التنوع اضفى الكثير من الحياة على مسار الاحداث ; فهناك علاقة الاختان ماردين بافراد العائلة ( الاب والام والاخت الصغرى وابن العم ) وهناك علاقة يسرا وسارة مع ابن العم نزار. ويمكن ياعلاقة سارة بأختها ، وماكان يشوبها احيانا من تقارب وتباعد يعكس لحظات دوافع أنسانية طيبة وأحيانا شريرة . ويصور اختين يبدوان أحيانا على طرفى نقيض احداهما حالمة ومثابرة لتحقيق حلمها والثانية تشغلها الحياه العادية الصاخبة بتفاصيلها السعيدة والمحزنة في الوقت ذاته . وهناك أخيرا علاقة يسرى مع نفسها مع إبراز صراعاتها الداخلية ، وأثر هذه الصراعات على تحقيق حلمها . رسم هذه العلاقات بتفاصيلها الصغيرة ، مع أختلافها وتشابكها مع الأحداث الخارجية ، نجح في جذب إنتباة المشاهد للمتابعة والتعاطف مع الاختين، والتماهى معهما لتحقيق الذات ، والتغلب على كل العقبات التى تقف في طريق تحقيق الحلم . وخلال التصاعد الدرامى نحو الذروة كانت هناك محطات مهمة لاضفاء جو من المرح لكسر قتامه الأحداث من خلال مشاهد لاتخلو من المرح ، شارك فيها ابن العم نزار من خلال أرتباطه بالرقص والموسيقى . وأزعم هنا أن كاتبة السيناريووالمخرجة أستطاعت أن تكسر نمطية تقديم مشاهد الحروب في الأفلام المصرية والعربية ، والتى كانت تقتصر على تقديم مشهد إنطلاق صفارات ، وبعدها يهرع سكان البنايات إلى الملاجىْ المظلمة !! على وقع أصوت انفجارات هنا أو هناك .

قيادة
الفيلم (الفن) يقدم سالي الحسيني- التي قدمت من قبل فيلمين قصيرين ومسلسل تلفزيوني ، وفيلم روائي طويل – كمخرجة متمكنة من أدواتها السينمائية فقد تم التصوير في أماكن تشبه الحقيقة إلى حد كبير منها (تركيا وبلجيكا وبريطانيا)، وتنوعت اللقطات ما بين المتوسطة والعامة، مع القليل من اللقطات القريبة لأن طبيعة الموضوع تتعلق أكثر – في أحد مستويات قراءته – بقضية جماعية. وقد استدعى التصوير الاستعانة في ما يبدو بلاجئين حقيقيين مع تعدد جنسياتهم. وغير خاف علي أحد صعوبة تصوير مشاهد العبور من تركيا إلى اليونان في البحر حيث يحتاج ذلك إلى عناصر مدربة وإجراءات سلامة كثيرة، حتى لو كان هناك استخدام أحواض مائية معدة لنوعية تصوير المشاهد الخطرة في الماء. ويحسب للمخرجة نجاحها في قيادة مجموعة من الممثلين متعددي الجنسيات ، ويحسب أيضا لمنال وناتالي وهما شقيقتان في الحقيقة ، حضورهما وتفهمهما لإبعاد شخصيتي يسرا وسارة. وجسدت كنده علوش شخصية الأم بشكل مناسب ، كذلك فعل كل من أحمد مالك وعلى سليمان وماتياس شفايجوفر. حتى الأدوار الثانوية والكومبارس الصامت والمتكلم أدوا أداورهم بشكل مناسب ومعقول تحت إدارة مخرجة تجيد إدارة الممثل. وإلى حد كبير نجح المونتاج في خلق إيقاع متوازن للقطات والمشاهد ، وكان قادرا في أغلب مشاهد الفيلم على إبقاء المشاهد في حالة انتظار لما قد يحدث في اللحظة القادمة. وصاحب شريط الصورة شريطا صوتيا قدم في إطار مقبول لغة سمعية أثرت الصورة وتنقلها في المشاهد المختلفة.

(السباحون) فيلم يجمع ما بين الروائي والتسجيلي ، ويقدم توليفة بصرية صوتية جاذبة قادرة على إثارة الانتباة والتشويق . ويقدم إحدى حكايات وقصص المهاجرين بعيدا عن أي تنظير سياسي. ويهتم بتقديم قصة إنسانية في المقام الأول ما زال أبطالها أحياء يرزقون. ولا تخل القصة من شجاعة هؤلاء الأبطال، لأنهم تحلو بإرادة الاختيار. وأستطاعو أن يتغلبوا على عقبات وظروف قاسية ليحققوا أحلامهم. وهو فيلم في النهاية يستحق المشاهدة.
.
عماد النويرى