نور الشريف

ملامح بطل  .. وسينما  جيل .                                                                  

           صياغة مصرية ل (حبيبى دائما) ووثيقة مهمة في (أهل القمة ) .

        قضايا فلسفية في (قلب الليل )  وتجربة مختلفة في ( البحث عن سيد مرزوق ) .  

          الفترة التي عمل فيها هي الأكثر ازدهارا للتعاون بين الأدب والسينما.

         قدم الكثير من المخرجين، أصبحوا لاحقا من أهم صناع السينما العربية.

السراب

في فيلم ‘السراب’ من إنتاج العام 1970، لعب نور الشريف أول بطولة مطلقة، حيث جسد شخصية كامل، البطل الشاب الذي دللته أمه كثيرا، وحولته من شدة حبها وتدليلها إلى إنسان بلا إرادة، غير قادر على التصرف. وتصدم زوجته في ليلة زفافها بعدم قدرته على القيام بواجباته الزوجية، لكنها تكتشف بعد مضي الوقت أنها مجرد حالة نفسية سببتها الظروف غير الطبيعية التي مر بها. لكنه شيئا فشيئا يسترد ثقته في نفسه وفي رجولته التي ظن أنها لن تعود.

زوجتى والكلب

وفي ‘زوجتي والكلب’ أدى نور الشريف دورا يحسب له، وتميز أداؤه بالصدق والبساطة والإقناع. فحركته وطريقة أدائه للحوار والتعبيرات الصامتة كانت انعكاسا صادقا لشخصية الفتى المراهق الذي يعاني الوحدة والكبت العاطفي. وفي أبناء الصمت من إنتاج 1974ومن إخراج محمد راضي جسد نور دور مجند ورصد الفيلم حال المجتمع المصري عقب هزيمة يونيو على الصعيد الداخلي وعلى الجبهة واختير الفيلم ليكون رقم 74 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية  

وكان العام 1975 واحد ا من أغزر أعوام نور الشريف على الإطلاق، فقد قام ببطولة 12 فيلما من أهمها فيلما ‘الكرنك’ من إخراج علي بدرخان وبطولة سعاد حسني، كمال الشناوي وفريد شوقي، والفيلم يمثل انتقادا حادا لثورة يوليو التي قبل أن تنهزم في عام 67، هزمت مثقفيها وكتابها   

معاناة داخلية

وفي العام 1979 قدم فيلم ‘مع سبق الإصرار’، وجسد فيه شخصية مدرس أكتشف خيانة صديق له تخلى عن إنسانيته. ونجح نور الشريف أن يعبر عن المعاناة الداخلية للمدرس بشكل لافت، فالدور مركب وعامر بالأحاسيس، وأداه نور بشكل سلس، وأعطاه قلبه ونبضه وأعصابه. وعلى الخط المقابل لقد نجح في تجسيد شخصية تحسب له كنموذج لأداء الممثل القدير، ومدى فهمه للشخصية التي يتقمصها. ويمكن اعتبار دور ‘مصيلحي’ علامة بارزة في حياة نور التمثيلية السابقة واللاحقة  

ويعتبر فيلم ‘حبيبي دائما’ إنتاج عام 1980 واحدا من أهم الأفلام الرومانسية في السينما العربية، وعلى رغم نسجه على منوال الفيلم الأميركي ‘قصة حب’ أنجز الفيلم بصياغة مصرية، قد نراها فيمن حولنا من محبين، ونسمعها عمن حولنا من قصص وحكايات. إنها تنويعه مختلفة من الشخصيات التي حرص نور الشريف خلال مسيرته السينمائية على تجسيدها  

ضربة شمس

وفي العام 1980 قدم نور الشريف فيلم ‘ضربة شمس’ وغامر بتقديم محمد خان كمخرج جديد سيكون له شأن بعد ذلك. غامر نور بماله الخاص في سوق لا يحتمل المغامرات، وكانت بداية دور سيلعبه فيما بعد كمنتج واع وممثل نظيف يحمل بعض القيم والمثاليات، وبعض الطموحات الفنية التي لم يعد أحد يجرؤ عليها. خاض مجال الإنتاج ليعمل ما يحبه ويرتضيه ويتمناه، وليكون قادرا على الاختيار… اختيار ملامح البطل الذي سوف يكون بعيدا عن قوالب المنتجين واختيارات السوق التي لا تعبر في أغلب الأحوال عن واقع الحياة    

عالم جديد

وفي العام 1981 قدم نور الشريف فيلم ‘أهل القمة’ عن قصة نجيب محفوظ وسيناريو مصطفى محرم. و ‘أهل القمة’ هنا هم اللصوص الجدد الذين استفادوا من قوانين الانفتاح الاقتصادي. ويمكن اعتبار ‘أهل القمة’ وثيقة مهمة تثبت أنه في مجال السينما مثل بقية مجالات الفن والفكر، كان هناك من يقول الحقيقة حتى إذا كانت المتاعب من نصيبه. بطل الفيلم زعتر النوري بطموحاته وأحلامه باحتلال مكانة جديدة في عالم جديد، كان في تلك الفترة تعبيرا عن شريحة كاملة تتهيأ لاحتلال مكان الصدارة في المجتمع. وفي منتصف عام 1982، جسد نور الشريف شخصية يوسف شاهين في فيلم “حدوتة مصرية“الذي يصور سيره المخرج حال تعرضه لازمه قلبية، وأندمج نور في الشخصية، وتقمص دوره. وأداه ببراعة بالغة، واختير الفيلم أيضا ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وفي العام ذاته قدم نور الشريف فيلم (العار) من بطولته مع النجمين حسين فهمي ومحمود عبد العزيز، ومن إخراج على عبد الخالق. وفي عام 1983 عرض فيلم ‘سواق الأتوبيس’ قصة محمد خان وسيناريو بشير الديك وإخراج عاطف الطيب. ويقدم الفيلم محاولة الابن حسن سلطان (نور الشريف) إنقاذ ورشة الأخشاب التي يملكها والده (عماد حمدي)، وتمثل له حياة الأب وكفاحه وإصراره. ولكن لتراكم الديون تعرض الورشة للبيع في المزاد، وحسن ما زال يقاوم

مراقبة وتأمل

في ‘سواق الأتوبيس’ الذي يتسم برحابة الرؤية ودقة تحليل الواقع، يتابع عاطف الطيب رحلة الوعي عند بطله، ويرصد الفيلم مراحل التغير والتحول من المراقبة والتأمل حتى لحظة المواجهة والكشف عن التغيرات التي حدثت في بنية المجتمع المصري في السبعينيات، وما صاحبها من اهتزاز لسلم القيم،  بالإضافة إلى شراسة الواقع الجديد الذي أدى إلى انعدام الدفء في العلاقات العائلية والإنسانية. ويمكن القول إن صناع ‘سواق الأتوبيس’ استطاعوا أن يعبروا بصدق عن اللحظة التاريخية وأن يضعوا على المستوى السينمائي لبنة قوية وأساسية في صرح الواقعية الجديدة    .             

وفي العام 1984 قدم نور الشريف فيلم ‘آخر الرجال المحترمين’ وأكد نور الشريف قدراته الأدائية، وقدم بعض ملامح البطل الطيب الذي يدخل في مواجهة غير متكافئة مع الروتين والفساد الحكومي   . 

وفي ‘الصعاليك’ عام 1985، ومن خلال متابعة اثنين من الصعاليك إلى القمة، جرى تفنيد أكذوبة رجال الأعمال العصاميين. حاول الفيلم من خلال أبطاله الصعاليك أن يقدم تحليلا لأساليب الصعود غير المشروع بوعي فني واجتماعي واقتصادي وسياسي. لقد حاول المخرج داود عبد السيد البحث عن المنطق النفسي والاجتماعي في تصرفات شخصياته، كما استطاع الكشف عما  يعتمل في داخلها من الحب، الاشتهاء، الندم، الخيانة والجشع، كل ذلك من خلال عرض واقعي صادق للحياة  

لقد حاول عبد السيد أن يبرر أفعال بطليه وانحرافهما نحو الشر، ونجح في ذلك إلى حد كبير، خصوصا أنه اعتمد على أداء ممثليه اللذان قدما مباراة متواصلة في الأداء التلقائي نجح فيها الاثنان: نور الشريف بتقديمه عرضا لقدراته على الأداء الطبيعي والتعبير الحركي، ومحمود عبد العزيز بتمكنه من شد الانتباه بحيويته وخفة دمه

وفي فيلم ‘الزمار’ عام 1985 قدم لنا نور الشريف جانبا من حياة الزمار حسن، الشاب المطارد والمتنقل من قرية إلى قرية من قرى الصعيد بحثا عن الأمان والاستقرار

وفي زمن ‘حاتم زهران’ 1988جسدا شخصية الشاب الانتهازي الذي يهرب من أداء الخدمة العسكرية ويسافر إلى أميركا. وهو على النقيض من أخيه يحيى الشهم الوطني الذي يستشهد في حرب73

وعن رواية للكاتب نجيب محفوظ قدم نور الشريف عام 1990 فيلم ‘قلب الليل’، وفيه معالجة لقضية فلسفية مهمة أتعبت الفكر الإنساني كثيرا، هي قضية الحرية والاختيار مرورا بالأشواق والرغبات التي تعتمل في روح الشخصيات فتنطلق لتحطم النواهي والممنوعات 

حاول الفيلم أن يتناول قضية اليقين المهتز بالشكوك والأسرار الغامضة، التي غالبا ما يعجز العقل البشري عن كشفها أو إدراكها. وكانت إطلالة أخرى على بعض ملامح البطل المعاصر الذي ينشغل أحيانا بأزمة الوجود وأزمة البحث عن هوية

البحث عن سيد مرزوق

تجربة مختلفة

ومع بداية التسعينيات العام 1991 خاض نور الشريف تجربة مختلفة وفريدة عندما تجاوز داود عبد السيد مؤلف ومخرج فيلم (البحث عن سيد مرزوق) حدود الواقعية الصارمة، وقرر أن يقفز فوق التفاصيل ليخلق عالما مختلفا يقوم على منطق خاص يمزج بين الحلم والواقع من دون تحديد لما بينهما من حدود، حيث إن الواقع هنا مجرد جسر يعبر عليه الفنان لينفذ إلى جوهره محققا نوعا من الواقعية الجسورة التي تقترب إلى حد ما من السريالية

وفي العام 1992 جسد نور في فيلم (دماء على الأسفلت) شخصية الدكتور ثناء الذي يعمل في إحدى المنظمات الدولية، وعندما يعود بعد غياب يفاجأ بأن الانحلال أصاب أسرته. ويحاول إصلاح الأمور مهما كانت الخسائر. كان نور الشريف قادرا- رغم الاختيارات المحدودة في السينما في ذلك الوقت- على الاختيار بوعي ليقول كلمته من خلال أبطاله   

ناجى العلى

وفي العام 1992 قدم الشريف فيلم (ناجي العلي) عن شخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي صاحب الشخصية الشهيرة ‘حنظلة’، وقدم تنويعه جديدة لملامح البطل الذي يحمل في قلبه الهم العربي    

وفي عام 1996 قدم ‘ليلة ساخنة’، ومع عاطف الطيب قام باستخراج أحشاء القاهرة في ليلة رأس السنة، وأشار البطل إلى أمراض المدينة وتوحشها. وكان الفيلم بمنزلة تقرير بصري شديد السخونة عن افتقاد الدفء وتنامي تجارة التعصب والتشدد وكان أيضا تنويعه جديدة على ‘سواق الأتوبيس’، لكن من خلال سائق تاكسي هذه المرة يستكشف ويكشف عن قاهرة التسعينيات   

وفي ‘المصير’ الذي عرض عام 1997 برع نور الشريف في تجسيد شخصية ابن رشد، وهو واحد من أكبر التنويرين، وعلى لسانه جاءت دعوة مهمة عالية الصوت واللهجة للدفاع عن خيارات الحداثة والفكر والفن. وكانت هناك أيضا صيحة تحذير وتنبيه من الردة الفكرية التي تطرق الأبواب بعنف وتأكل في طريقها وطرقها الأخضر واليابس   

  واستمر نجاح نور الشريف في التسعينيات وصولا إلى الألفية الجديدة التي برزت له فيها أفلام أهمها: “العاشقان” عام 2001 و “عمارة يعقوبيان” عام 2002، “دم الغزال” عام 2005 و “ليلة البيبي دول” عام     2008  

أخيراً كان حضوره القوي في فيلم «بتوقيت القاهرة» للمخرج أمير رمسيس، في شخصية يحيى الرجل المصاب بالزهايمر، لكن المرض في حالته له علاقة بتمسكه بماضٍ جميل لا يشبه حاضره، وهو الذي يعيش في منزل ابنه الذي يتعمد إهانته كل يوم، ووصل الحدّ به إلى أن يتعدى عليه بالضرب، ما جعل الأب يترك كل شيء في المنزل باستثناء ساعة قديمة، وصورة لامرأة جميلة يصر يحيى أنه يعرفها ويجب البحث عنها

ومن خلال متابعة رحلته الفنية، يعتبر الفنان نور الشريف هو الممثل الأكثر وجودا في الأفلام المصرية المأخوذة عن روايات مصرية وعربية دونا عن كل أقرانه من الأجيال السابقة عليه واللاحقة له… حيث إن بداياته وأداءه شخصية كمال عبد الجواد في فيلم «قصر الشوق» تعني أن الممثل كانت بداياته قوية في العمل من خلال نص مأخوذ عن نجيب محفوظ 

الادب والسينما

ومن حسن الحظ أن الفترة التي عمل فيها نور الشريف في السينما هي الأكثر ازدهارا للتعاون بين الأدب والسينما، وإذا قرأنا قوائم أفلامه سوف نجد ثلاثين فيلما على الأقل مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ، ثروت أباظة، إسماعيل ولى الدين، عبد الحميد جودة السحار، مصطفى محمود وتوفيق الحكيم،. وإذا عدنا إلى الشخصيات التي جسدها عن أعمال نجيب محفوظ فهو أيضا المثقف الذي أقلقته رحلة البحث عن الحقيقة في أفلام مثل (قلب الليل) (وليل وخونة) وهو بمثابة الإعادة المعاصرة لرواية (اللص والكلاب) وفي أفلام عديدة أخرى كان القلق هو العماد الرئيسي للبحث عن الحقيقة مثل شخصية المهندس في فيلم (لقاء هناك) المأخوذ عن رواية لثروت أباظة… فهو رجل الفكر الذي لا يؤمن بالغيبيات إلا إذا نزلت به المصائب كي يعرف أن الله حق… وقد تكررت هذه الشخصية في نفس الفترة عام 1974 من خلال دوره في فيلم (الإخوة الأعداء)   

وقد عمل نور الشريف منذ بدايته في أفلام لعدد من الكتاب الكبار منهم يوسف السباعي (نادية) وإحسان عبد القدوس (بئر الحرمان) (ولا شيء يهم) وأمين يوسف غراب (أشياء لا تشتري) وثروت أباظة (ثم تشرق الشمس) ومجيد طوبيا (أبناء الصمت) وعبد الحميد جودة السحار (الحفيد) وإسماعيل ولى الدين (الأقمر) وأحمد فريد (عندما يبكي الرجال) ونهاد شريف (قاهر الزمن)

وغير ارتباط النجم الراحل بأعمال مأخوذة عن أصول أدبيه، فقد كان يرى أن الممثل الجديد من السهل أن يحصل على فرصة لكن الأصعب هو تقديم جيل جديد من المخرجين الموهوبين ف ، من سيقدمهم ويغامر باسم مخرج غير معروف، لذلك غامر نور الشريف وأفاد السينما المصرية كلها بهذه المغامرة عندما قدم الكثير من المخرجين من خلال تجارب أنتجها بنفسه، وأيضًا تجارب قدم هو بطولاتها السينمائية، وأصبح هؤلاء المخرجين لاحقا من أهم صناع السينما المصرية   

إلى حد كبير حاول نور الشريف دائما آن يعبر عن نفسه من خلال هذا الفن المحاصر بقوانين السوق التجارية من ناحية، وقوانين الرقابة من ناحية أخرى فنجح أحيانا ولم يوفق أحيانا مثله في ذلك مثل عشرات الفنانين العاملين في السينما في مصر وفي العالم كله وهم قلة نادرة وسط كثرة طاغية من الفنانين الحرفيين الذين يقدمون الأفلام بقوانين السوق وبقوانين الرقابة. وعندما نقول حاول أن يعبر عن نفسه لا نقصد التعبير عن عالمه الداخلي فقط. بل وعن علاقته بالعالم والحياة والمجتمع من حوله أيضا. وكما لا ينفصل الشكل عن المضمون، لا ينفصل التعبير الذاتي عن التعبير الاجتماعي  

إن أية مراجعة فنية لسينما نور الشريف، وأي مرور على ملامح البطل الذي قدمه في أفلامه، إنما هي مراجعة أيضا للتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع المصري خلال أربعة عقود. وهي في جزء كبير منها مراجعة أيضا للتاريخ السياسي والاجتماعي للحياة العربية بشكل عام.                                                                                                     

عماد النويرى

أضف تعليق